يقولون إن العين هي نافذة الروح، وفي الشام يقال: العين مغرفة الكلام، ربما لأن تلك العدسة أو المرآة ذات بُعدين، فهي تسمح لنا بإدراك الآخر، وفي الوقت ذاته تتيح لنا فرصة التأمل في ذاتنا، ومتى صَفَت تلك العين اتسع هذا الإدراك ونَـمى، ولا أنقى من روح طفل تبعث الحياة في الجوامد وتعبث بوجدان الأحياء، ثم إن كل شيء محيطٌ بك يفعل بك مثل ذلك وزيادة إن أحطت، كالبحر والشجر، والنهر والزهر، وبَديع السماء صُبحاً ومساء، كل تلك نغماتٌ تشدو مسمع روحك وتحدوك لتتأمل وتسمو.
كم أجاد الأديب الرافعي في وصف أثر إكسير روح الطفولة على الأشياء في مقالته “اجتلاء العيد“، ومنها قوله: “هؤلاء السحرة الصغار الذين يُخرجون لأنفسهم معنى الكنز الثمين من قرشين، ويسحرون العيد فإذا هو يوم صغير مثلهم جاء يدعوهم إلى اللعب.” كما أبدع لويس كارل في روايته “أليس في بلاد العجائب” حين جسد شعور الطفل في بساطته وعفويته وفضوله، بالرغم من أنها لم تحز اهتمام النقاد في البدايات، -ربما لانفصال وجدان البالغين عن تلك العفوية، إلا أنها ترجمت لأكثر من 174 لغة وأصبحت ملكية عامة متاحة للكبار قبل الصغار، والطريف هنا أن شخصية أليس في الرواية اكتشفت من خلال المرآة هذا العالم السحري، الذي لم يكن سوى في خيالها ووجدانها، ويقال إنه استلهمها من بنات صديقه، لكن علينا ألا ننسى روح الطفل بداخله التي جسدت ذلك، وليس الغريب هنا وجود تلك الروح فينا بل العجب أننا قد ننهكها ونعذبها بتصرفاتنا ونحبسها بتفكيرنا، فلا يعود لها أثر، ولك أن تتأمل حين تسأل طفلا: من أنت؟ كيف سيحدثك عن كل تفاصيله التي يحبها لأنها تعنيه ولا يلقي بالاً كيف ستنظر إليه أو أن يفكر فيما يهمك، ومع كل سِن أكبر تجد أن الإجابة تصغر، ولا تذهب بعيدا فالسؤال موجه لك أيضا، لِتَجد أن البعض يختزل التعبير عن ذاته بما يشغل عقله لا بما يملأ وجدانه، ويكترث لما يهم الآخرين فقط دون وجود لروحه وكينونته، ويا للأسى حين يضيف الكبار إلى الصغار من ذهنهم المشوش ونفسيتهم المضطربة مزيجا مشوها، لا هو الذي يدفع بهم نحو الاكتشاف والمغامرة، ولا هو يصقلهم بالفتوة والعفة، وكم في مَرايا الحياة من حَكايا.
السيرة، أطول من العمر –مثل مصري
يذكر أن فن الحديث عن الذات بنمطه المعاصر “السيرة الذاتية” تطور في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والعجيب أن الذي دفع بذلك هو تطور صناعة المرآة، التي فسحت المجال للحظات من السكون والتأمل، وأتاحت الغوص من عين الشخص الواقف أمامها إلى عين الواقف أمامه انعكاسا، تطول تلك اللحظات أو تقصر، بمختلف أشكالها وأحوالها، من فرح وحزن وبهجة وتعاسة ونشوة وانكسار ومحبة وكره، بين هوس “الأنا” وخشية مجرد التفكير في هذه المقابلة، والسيرة الذاتية لشخص هي أشبه بصورته التي تحكي معالمه فهي بكلها عينٌ نافذة إلى روحه، قد تبدو مشوهة إذا كانت عينُ شخص آخر مَنفَذُها، فتُقلِّبها وتبحث فيها عن كاتبها ولا تجده، بل تجد آخرين، على أن له أن يستعير ويشاهد بأعين الآخرين زوايا مختلفةً لِذاتِهِ من خلال مراياهم، ولا يفرط فيستبدل ظَنَّ الآخرين بما يعرفه عن نفسه علم اليقين، فتصبح سيرته أشبه برواية خيالية، والرواية تنبعث من الخيال وتبعث بالوجدان والسيرة الذاتية تبعث بالخيال من وجدان كاتبها، والمزجُ بينهما جمال من روح الكمال.
Nothing magical ever happened, in your comfort zone – SUJIN JANG
في رحلة اكتشاف أمضيتها طوال العام الماضي لعلي أصفها بترتيب الأوراق، استعنت فيها بعدد من أهل الاختصاص في مجالات متنوعة، وانطلقتُ فيها من البحث عن الذات بنمط مختلف، رغم أن هذا البحث مستمر إلا أنه في هذه المرة كان أكثر انفتاحا على الذات لا مجرد اتساع، والفرق هو أننا نحسن التوسع فيما نحبه أو نألفه لكننا قد نخشى الانفتاح بصدق على أنفسنا قبل الأشياء من حولنا، جرب أن تفعل ذلك وتنطلق بروحك نحو ما تريده وتُحسن من خلالها فهم الآخرين من حولك، صُن روح الطفل التي بين جنباتك، وارعَ المحبة في وجدانك مثل ذلك وزيادة، فمن لا يحب فهو ميتٌ قبل الموت، كن حيَّاً مثابراً في طريقك وثابتاً في محاولاتك، تعلم وتعلم كيف تتعلم، ولا تجعل معلومة أو فكرة تسيطر عليك وتغلق عقلك عن المعارف الأخرى، أحط نفسك بمن يعينك لا من يهينك، بشكل مباشر فيكسر همتك أو غير مباشر فيداهنك ويقصم ظهرك لحظة الحقيقة، شارك تجربتك وأجب من سألك واحفظ مبادئك، ولا تستعجل الثمرة حين تتوكل، “اللهم إنك تقدرُ ولا أقدر وتعلمُ ولا أعلم وأنت علام الغيوب”، وتذكر فالأشياء مرهونة بأوقاتها.
محمد السقاف – غرة محرم 1439ه
"مرآة الحياة",