الخروج من القمقم

الكاتب: محمد السقاف | يوم: 22 يوليو 2013 | التصنيف: خواطر | 24٬642 قراءة | طباعة

استلقيتُ تحت ظل شجرة في وقت الظهيرة وأطلقتُ يدي مغمضاً عيني، بينما الهواء يداعب ببرودته وجنتيَّ، وشعرت أنه يحملني بعيدا عن ازدحام الأعمال وتزاحم الأحداث من حولي، حتى غارت الشمس فتجاذبتني من بين أغصان الشجر، وأخذتني من الخيال إلى الحال، ودفعت بي للخروج من القمقم.

إذا استقبلتَ العالم بالنفس الواسعة رأيتَ حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق،
وأدركتَ أن دنياكَ إن ضاقت فأنت الضيق لا هي – الأديب الرافعي

مشهد البداية

يرتبط وصف القمقم ذهنياً بالمصباح السحري، فتستدعي الذاكرة قصص المارد وعلاء الدين، وترسم مشاهداً وحكايا بين أنفسنا وخيالنا، وتبدأ -غالبا- بتساؤل: إذا وجدت المصباح فماذا سأتمنى؟ ليسرح كل منا في بساتين من الأفكار ويسبح في بحور من الخواطر ويمرح في شعور ذاتي بين المتعة والألم، هو فقط من يراها ويدركها ويشعر بها، لا نمل من تكرار المشاهد ذاتها كل مرة وقد نجد متعة أكبر في ابتكار مشاهد جديدة من نفس المقدمات، مصباحٌ وماردٌ وأمنية لكن المشاهد والنهايات مختلفة في كل مرة، وبحثا عن اختلاف من نوع آخر سألت بعض أصدقائي: إن لقيتُ المارد وقال لي: “لك ثلاث أمنيات”، فحتماً سأطلب منه أربعة، لكن ماذا عنكم؟ فيأتي هنا الاستغراب والتساؤل، ولكم أن تفكروا في السؤال بإعادة المشهد في ذهنكم مجددا ولكن هذه المرة من منطلق مختلف.

متاهة من نوع مختلف

الإناء الفارغ لن تسمع فيه سوى صدى الصوت، واستمرار فراغه يجعل صاحبه يغرق في شبر ماء فضلا أن يمتلئ، فيملأ فراغه أي شيء يمر به ويعجبه، ولست أتعجب في المشاهد اليومية حين ترى من يضع الأشياء المتضادة مع بعضها فيخلط ويخبط، ويرى الحياة من زاويته، ويقدر الأشياء من منظوره ويراها بأفقه المحدود، وهنا أقتبس عبارة أعجبتني للفيلسوف د. طه عبدالرحمن: ” أفمن كانت له روح طليقة يرتحل بها من عالم إلى عالم، كمن مَثَله في قيود نفسه ليس بمنفكٍّ عن عالمه المرئي”، واليوم إذا نظرنا من حولنا سنجد كثيرين ممن قبعوا أسرى هذه القيود، ووقعوا تحت وهم العجز قدرةً أو رغبةً، فمنهم من يريد أن يبقى كما هو بلا حافز أو دافع لتغيير أو اقتحام أمر كبير، ودعني أخبرك أمراً تميز به بين قناعة الرضى وقناعة العجز، فإن من تجده يحافظ على بقاء حاله من منطلق المبدأ وخاصة على حساب حقه فهذا أمره حسن -غالبا-، وأما إن كان من منطلق الطبع والتصرفات فأمره من النفس والهوى -عادة-، ولكن هؤلاء لا تتوقف مشكلتهم عند البقاء حيث هم، فهم يضعون في حياتهم حاجزا بعد حاجز من الأوهام والخيالات تارة أعلاهم ليمنعهم عن الخروج من هذا القمقم، أو حولهم فيحجزهم في متاهة تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، وأعقد ما فيها أنها صنيع أيديهم.

مشاهد من الخيال

للإنسان قدرة على اختراع فكرة من خياله والأغرب تصديقه لها بما قد يصبح إيمانا بها وإخبارا للآخرين عنها بأنها يقين، وهي في الحقيقة ليست موجودة سوى في حيز ذهنه وخياله، وكي تكون الأمور أكثر سلاسة وبساطة أضرب بعض الأمثلة من المشاهد والمواقف حولنا، فمثلا: تجد شخصا يتوهم أنه مراقب وهناك من يترصده ويدبر له مؤامرة، ويفسر الأشياء التي تمر به على نفس النسق، لتجد حياته تتمحور شيئا فشيئا حول هذه الفكرة كقناعة وواقع معاش، ومع الأيام يبدأ في تعميم هذه القناعة ونشرها للآخرين، ولو لم يمر في حياتي مثل هؤلاء لما صدقت ما أكتبُه واعتبرته ضربا من الخيال، ولكن هذا الخيال أو الوهم قد يدفع بصاحبه للموت أو التماوت، نلامس سلكا كهربائيا في الظلام فنعتقده أفعى لدغتنا، وهنا تحضرني طرفة لجحا حين سمع أن من علامات الميت أن تكون أطرافه باردة، وذات ليلة قارصة تاه في الصحراء وتجمعت حوله الذئاب، فلما أحس ببرودة أطرافه، تمدد واستلقى مستسلماُ وقال مخاطبا الذئاب: والله، لو كنتُ حيا لأريتكم!

وقبل أن نضحك على موقف جحا ففي حياتنا مواقف كثيرة تقل عنه أو ربما تزيد، فنحن قد نرفض تجربة الأشياء الجديدة من الطعام والشراب والملبس، أو قيادة السيارة في بلد لم نعتده أو السفر لمكان جديد لمجرد أننا نعتقد أنه لا يمكننا، وبعد أن نقوم بالتجربة ولو بعد حين فإننا نتعجب من قناعاتنا السابقة، ولأكون أكثر دقة فإننا نتعجب من اقتناعنا بها، أغرب من ذلك أننا نربط كثيراً من الأشياء بأمور مصيرية أو حتمية في حياتنا فقط لأننا نقنع أنفسنا بحاجتنا لها وارتباطها الحقيقي، وبمجرد أن تزول أو تذهب هذه الأشياء ونتحقق أنها غير موجودة فسرعان ما نتأقلم تلقائيا وتستمر حياتنا طبيعية، فأين ذهبت تلك القناعات؟ و لنأخذ موقفا مألوفا من زاوية أخرى: حين نتخيل أن هناك من رآنا بصورة ما، أو نرى موقفا ما بحسب تصورنا له، وهذه الصورة في أذهاننا فقط وليست واقع ما حصل فعليا، فتزداد بهذه الصورة المحبة أو الكراهية والقرب أو البعد، وتصبح القشة المبنية على وهم هذا الخيال كومة تكبر شيئا فشيئا، ولعل مثل هذه القشة تحتاج لإزالتها بمزيج من المصارحة والمصالحة مع أطراف المشهد، ومزيد منه مع أنفسنا.

نحنُ نتقابلُ مع الناس في كل لحظة .. لكننا.. لا نتقابلُ مع أنفسنا إلا نادراً.. القديس اغسطينوس

هذه التدوينة خرجت من القمقم بعد شهرين من وضع العنوان، وقد ابتدأت تسطير فكرتها في أم البلاد، ولم أجد فرصة أفضل لنشرها من هذا الشهر الفضيل الذي تنجلي فيه نفوسنا بوضوح لنتعرف إليها أكثر ونكتشفها ونخرج بها من القمقم، لستُ أدري كم قمقما أحتاج الخروج منه ومتى سيتم ذلك؟ لكني أسعى بجد في هذه المرحلة للموازنة بين “التفكير الاستباقي” و “الفعل الاستباقي”، إلى جانب قائمة من الملاحظات والاكتشافات للذات تستحث مني الخطوات أو القفزات في رحلة الخروج، المهم ألا يتوقف المسير وبالله التيسير.

13 رمضان 1434
محمد السقاف  – دار الظبي

الكاتب: محمد السقاف | يوم: 22 يوليو 2013 | التصنيف: خواطر | 24٬642 قراءة | طباعة

التعليقات:

اترك تعليقاً | عدد التعليقات: (11)

  1. يقول علي الشريف:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    إهمال الأسرة لهذه الأمور ولضعف مناهجنا التعليمة التي تعاني من فقر شديد خصوصاً تجاه مواضيع كهذه، فكيف ستتعلم الأجيال عن ما تحدثت عنه سيدي !

    تركنا التفكر والتأمل والتساءل فأصبحنا سجناء لأوهام وضعناها بأنفسنا وأصبحت مشاكل الحياة – بعضها من خيالنا – بل وأتفهها تفقدنا صوابنا وتتحكم بنا كالدمى

    شكراً لك سيدي فمدونتك مبادرة طيبة لمن يعي وأتمنى من الإعلام الجديد أن يسلّط عليها الضوء فنحن في أمس الحاجة لكل ما من شأنه أن يرفع من ذكاءنا تجاه التعامل مع أنفسنا ومعالجتها

    تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

    • وعليكم السلام ورحمة الله
      أوافقك الرأي في الأسباب التي ذكرتها، والتي عززتها مراحل الحياة من حولنا حتى في الحياة العملية، واليوم ضغوطات الحياة النفسية تزداد مع الماديات والإعلانات التي تعزز في مخيلتنا أن ما يعرض هو حاجة حقيقية.
      شكرا لتعليقك وأسعد أن فيما بسن الأسطر ما يفيد.
      مودتي،

      تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

  2. يقول نهاد:

    المقال رائع
    و جزء كبير من الموضوع بسبب التربية في الصغر و ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.. فعندما أرى صديقتي تفرض على ابنتها كل مرة لبس معين و تنهاها عن تجربة أشياء معينة مع الرد على تساؤلاتها برد الأم المصرية الشهير: “عشان أنا قلت كده”، أقول لنفسي حينها أنها عندما تكبر ستكون مثل الغالبية.. تخشى الاختيار و تضع القيود الوهمية لنفسها حتى تظل في “دائرة الأمان” لتتحول إلى إنسان ضيق الأفق، منكسر و عاجز “لأنهم قالولها كده”.. أس مأساة الأمة العربية!

    تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

    • أوافقكم الرأي وربما يتحول هذا الشعور من القيد إلى الفرض، فبدلا من أن يكون قيدا بسبب التعود في الماضي، يكون ردة فعل لفرض كل عادة وطبع نرتاح إليه في مستقبلنا.
      وربما يختلط الاثنان معا فيحمل الإنسان اللوم على الآخرين وهو يمارس قراراته الذاتية.

      مودتي،

      تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

  3. يقول رضا حريري:

    جميل أن يطلق الشخص العنان لنفسه ويسرح ويمرح في عالم الخيال الذي لا حدّ له. والأجمل الموضوعية والشفافية خلال ذلك التحليق والإستعداد لما هو آت.
    سلمت الأنامل التي نسجت هذه الخيوط الرقيقة التي تحرك الوجدان ونسجت رائعة ترفع لها القبعة إعظاماً وإكباراً.

    تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

  4. رائع ومتفرد كعادتك أستاذ محمد… أعجبني تمييزك بين قناعة الرضى وقناعة العجز!

    تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

  5. يقول mohamed:

    الاسلام عليكم
    ما شاء الله موقعك جميل ومفيد
    ابدأ أقوى استراتيجية عبر الانترنت
    في تحقيق دخل جيد للموقعك
    لا تضيعوا الفرصة من بين يديكم

    ماذا تنتظر؟ سجلوا الآن مجانا واحصلوا على مئات دولارات
    http://goodhsoub.blogspot.com/

    تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

  6. يقول kuwait:

    اعجبني اسلوبك في الاسترسال والتعبير ، كما اعجبتني جدا فقرة ” مشاهد من الخيال ” اتمنى ان تستمر هكذا وتخرج كتاباتك من القمم كل فتره لتتحفنا بقلمك الرائع .

    تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

  7. اعجبني اسلوبك في الاسترسال والتعبير ، كما اعجبتني جدا فقرة ” مشاهد من الخيال ” اتمنى ان تستمر هكذا وتخرج كتاباتك من القمم كل فتره لتتحفنا بقلمك الرائع .

    تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

  8. يقول المسيلة:

    اسلوب رائع في الكتابة

    تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

  9. يقول شيرين:

    ماشاء الله موضوع جميل تشكر عليه

    تقييم التعليق: Thumb up 0 Thumb down 0

أكتب تعليق

CommentLuv badge

سقاف كوم - حيث لا سقف للمعرفة! | جميع الحقوق محفوظة لموقع سقاف كوم | اتصل بنا لأفضل وأسرع تصفح لمدونة سقاف كوم استعمل فايرفوكس