أربعة أشهر مضت منذ الرحلة ومنذ كتابة المسودة وهي منذ ذلك الحين تنادي عاتبة متى ستنشر، ولك أن ترى في وجوه التدوينات الأخرى التي في المسودة نظرات العتب والغيرة منها، حتى استقر الخاطر على إتمام التدوين والنشر، والكتابة عن رحلتي إلى أرض الشيشان، ولكن ما هو معنى العنوان؟
حين تسافر إلى بلاد جديدة فإنك تبحث عنها من حال الطقس حتى طبيعة الغرس، فتنظر ماذا يقال عنها، ولكنك إن كنت لا تفهم لغة البلاد التي تزورها فستكتفي بما وجدت في المواقع، وتحتفي بما وصلت إليه عبر الشبكات الاجتماعية، مما يراه الناس أو ينقلونه، ولكن هل كل ما تسمعه أو تقرأه أو حتى تراه صحيح ويمكن الاعتماد عليه لتكون تصورا كافيا، ولا زلت أذكر زيارتي للجزائر والحديث عن الصورة الذهنية المرتبطة بها عبر الإعلام التقليدي والجديد والاختلاف حين زرتها، وأما صورة الشيشان فقد فجرت تلك الصورة، وقد شعرت بذلك من أصدقائي الذين أراسلهم بالمشاهد والصور، وإليكم هذا المشهد الذي تكرر أكثر من مرة:
وسرعان ما يختفي حينا حتى يمتص الصدمة، وتظهر لمخيلته الصورة المرتبطة باسم البلاد والجهاد، والصورة التي أرسلتها له، وصورتي تأتي وتختفي في مخيلته، حتى يفيق ويعود فيسأل: كيف؟ ماذا؟ متى؟ وتجد التعجب يتصاعد مع كل معلومة تخالف ما يقال وينشر مما تشكل لديه من تصور في الذهن واستقر، وفي زيارة لأحد الأودية كتبت الخويطرة التالية:
أستمع لصوتك مُغمضاً عيني
لا خطر ولا حذر عنك أخرني
فداك قلبي، روحي، لا أقول عقلي
ففي هواك لا عقل لي ولا اختيار
تحدثت عن قليل من أخبار الرحلة في دورة تدريبية قدمتها حول التواصل الرقمي في الإعلام الجديد، وكيف أن الصورة الذهنية تكونت من خلال “اللغة” فتشمل بذلك: المفردات والكلمات والعقلية لإيصال المعلومة، وكيف أن الناس قد تدرك بعاطفتها أكثر من فكرها وتتفاعل بالعاطفة مع غيرتها لا سيما للقيم السامية أكثر من مجرد الأخبار والتاريخ البحت، فتنطلق بقوة موجهة عادةً ما تكون بلا تأنٍ وتفكير.
وهنا لدينا من انتهز تباين اللغات فعزف على وتر المقدسات والإيمان وصنع هالة من قدسية الشعارات الإيمانية حول شخصيات من عصابات مسلحة معاصرة ممن تحدثوا باسم الجهاد وحملوا اسم المجاهدين، فاستحلوا مكانا ووصفا ليس لهم، وصوروا للناس أنها معركة مصير لا مفر منها وأنها بين إيمان وكفر، وإذا بحثنا قليلا بشيء من التأني والتروي لوجدناهم قتلوا مسلمين من أهل الشيشان وبلاد القوقاز، وأكثر من ذلك -بحديث أهل البلاد- تجد شخصا مثل: شامل باسييف يقتل عالما جليلا لأنه لم يقر أفعاله الإجرامية ويفتي بأنها جهاد شرعي، فهل في الجهاد قتل الأبرياء واستباحة الدماء وانتهاك حرمة العلم والعلماء!
كم أحب أن أشبه الفكرة بالطبيعة، فهي مستودع لأسرار الله “بل هو آيات بيناتٌ في صدور الذين أوتوا العلم”، فانظر إلى من أراد الغرس لثمر في غير أوانه أو غير أرضه فإنه لا يزهر ولا يثمر، وحتى يحتال الإنسان على ذلك طمعا لأنه بطبيعته يحب الثمر في غير أوانه، أو جشعا فيحتال بإضافة مواد ليست من أصل التربة والطبيعة والنتيجة شكل بلا طعم، قشر بلا لب، اسم بلا مسمى، وفي المقابل نصب وتعب لزارعه، وعَرَض ومَرَض لآكله، وأما ما يتم تعبئته وتعليبه وتصديره مما لا ينفع فكثير.
من يقرأ في تاريخ الشيشان ودول القوقاز يجد عصراً حافلاً بالمعارك الضارية للبقاء منها ما كان ضد المد الشيوعي وغيرها، ومن أخبار تلك المعارك: أن في القرن التاسع عشر منع فيه الناس من إقامة أي شعيرة دينية وتعرض علماء البلاد للقتل والمحاربة إلى الحد الذي يتم فيه طحن العظم مع اللحم ويلقى بفتاتهم إلى النهر الذي بني على ضفته الجامعة الإسلامية وقد خرجت أولى دفعاتها في هذا العام.
ومن الأخبار أيضا ما يوصف عن شجاعة المحاربين الشيشانيين وبأسهم، فتوصل الشيوعيون حينها إلى فكرة لكسر شوكتهم وذلك من خلال أسر نسائهم، وتم الأسر فعلاً فقادوهن مقيدات مع الجنود حتى لا يهربن، ولأن اللغة الشيشانية لا يفهمها الروس فما كان منهن إلا أن تشاورن وقررن أن لا ينكسر رجالهن بسببهن، وصحن بصوت واحد فرمين بأنفسهن مع الجنود في نهر تيرك.
بلاد عاشت حقبة في الحرب وصد المعتدي والجهاد حتى أتت فترة الهدنة والمعاهدة التي نقضها “خطاب” وأصحابه فأدخلوا البلاد في الحرب الثانية التي رفض المفتي والعلماء اعتبارها جهادا، بلاد تم تهجير أهلها إلى صحراء سيبيريا وتفريق الأسرة عن بعضهم، بلاد ما يقرب من نصف شعبه متفرق خارجه، يمضي اليوم قدما ليطوي حقبة مضت باتجاه البناء والتشييد بسواعد أبنائه.
تبسمت حين قرأت تعليقا عن ابن بطوطة بأنه اعتم بالكتابة عن الحرف والمعادن والتجارة والبطيخ 🙂 والبطيخ في الشيشانية يسمى “خُربُز”، وفاكهة الخربز لديهم تسمى “باست”، ومن الملاحظ لديهم وفرة الأبقار وتناول لحومها كوجبة رئيسية إلى جانب مرقه ووجبات شعبية من عجين الذرة مع الثوم، و تجد أيضا عسل الزهور والمربى الطبيعي، وحين تشرب الشاي فتأخذ قضمة من السكر في فمك ثم ترتشف الشاي ويمكن أن تتستبدله بملعقة من العسل أو المربى، وأثناء ارتشاف كوب الشاي تبدت هذه الخويطرة:
استيقظت أبحث عنك
لم أرك في منامي ولا أمامي
شممت عطرك في الشاي
تأملت وجه الكوب فتبسمت
ومن العادات اللافتة في الشيشان طبيعة السلام فلا يصافح الصغار من هم أكبر سنا باليد، وإنما بمد يد المصافِح من أسفل ذراع الآخر وخلف ظهه تعبيرا عن الود للأقران والاحترام والتقدير لمن هم في سن عمرية مختلفة، وأما معنى العنوان: “غُلقَش مُخ دُ” فهو: كيف الحال؟ فتجيب: “مُوا، ديلَ رِز خِل” أي: بخير، شكراً 🙂
السفر رحلة ومغامرة تكتمل بوجود الرفقة الحسنة، تفسح المجال لاكشتاف الإنسان لمكامنَ في ذاته وخبايا مودعة في الأرض وقراءة تاريخ كتب أو حفر أو انطبع في أهل كل بلاد، ودون شك فلا يخلو الشيء من ضدٍ ولكن شيخي علمني تشمم معاني الجمال، وتشوف مراقي الكمال، بدءا بترك القيل والقال، وحرصا على الانشغال بصلاح الحال، فدوام الحال من المحال، وما مضى غائب وليس لك إلا الساعة التي أنت فيها.
كانت هذه واحدة من الرحلات المميزة التي أثْرت بما فيها، وأثَّرت في الكثير، بين طبيعة أرض وطيبة نشرت ودونت عقبها العديد من الخواطر والصور، ومؤخرا كتبت تدوينة البذرة والثمرة وبعد زيارة منطقة جبلية خضراء فيها من الأنس والانشراح ما حركني لكتابة هذه الخويطرة صباحاً:
وقال لي: هجرت الناس باحثاً عني
وقطعت المسافات لتصل إلي
ابق حيث شئت واهجر ذاتك
واقطع المسافات منك.. إلي
محمد السقاف،
للمزيد حول الشيشان:
اترك تعليقاً | عدد التعليقات: (2)
اكثر من رائع … وفقك الله وحفظ بﻻد المسلمين من كل شر
تقييم التعليق: 0 0
موضوع مميز واكثر من رائع جزاك الله خير
تقييم التعليق: 0 0