يستحث ذهن الإنسان وصفٌ أو عنوان، يسرح بخياله ويمرح بأحلامه، وقد يدفع الاسم والوصف بالتفكير، نحو عنوان محدد وإليه يشير، فإذا قلت قصص العرب والتراث العربي، تبادر للكثير عنوان: “ألف ليلة وليلة”. ولنخرج من هذا العنوان إلى عالم من التراث الإسلامي، وبعنوان يحمل فكرة التسمية لا المضمون، “ألف اختراع واختراع“.
حين تصل إلى معرض “ألف اختراع واختراع” في كورنيش أبوظبي، تجد كتيب نشاطات الأطفال وخريطة المعرض، ثم تنتقل لصالة تعرض مقطعا مرئيا “مكتبة الأسرار” تطلب فيه معلمة التاريخ من كل مجموعة من طلابها البحث عن إنجازات حقبة زمنية مختلفة، ويكون نصيب مجموعة منهم “عصور الظلام” في أوروبا مع قناعة المعلمة بأنهم لن يجدوا فيها شيئا يذكر،
والمفاجأة أن فترة “عصورة الظلام” هي “العصر الذهبي” الإسلامي حينها، فتتقد في نفوس الزائرين شمعة اللهفة والدهشة، وكما يقول أرسطو: إن الدهشة أول باعث على الفلسفة.
وبعد العرض يستقبلك في قاعة الاختراعات المخترعون أنفسهم، فيحدثوك عن أنفسهم واختراعاتهم عبر الشاشة وسماعة الهاتف، أو تحاورهم وتسألهم من خلال الأشخاص الذين ترسموا بلباسهم وهيئتهم، باللغتين العربية والإنجليزية.
ينقسم المعرض لأجنحة تضم مجموعة من الاختراعات المتقاربة أو لعبة تعليمية عن اختراع ما، فتجد: جناح الهندسة، والمستشفى، والعالم، والكون، والمدرسة، وابن الهيثم.
ومن الاختراعات مضخة الطاقة المائية التي أصبحت نواة المحركات كالقاطرات والسيارات، وتوليد الطاقة بالرياح باستخدام طواحين الهواء، والساعة التي تشحن بطاقة الماء، أيضا ساعة الفيل، وقسم آخر يعرض لك الاختراعات بحسب خريطة العالم، فتحرك الكرة يمنة ويسرة تختار المدينة التي ترغب في معرفة الاختراع الذي وُلدَ فيها.
قابلتنا بعد ذلك سيدة انجليزية من القرن السابع عشر، عرفتنا بنفسها فإذا هي زوجة سفير انكلترا في تركيا آنذاك “ماري وورتلي مونتاغيو”، ولكن ماذا أتى بها لمعرض ألف اختراع واختراع! وسرعان ما أخبرتنا: أنها من أدخلت اللقاح المضاد -التطعيم أو التحصين- إلى انكلترا بعدما شاهدت الأتراك يلقحون أطفالهم ضد جدري البقر المأخوذ من صدور الأبقار فإنهم لا يصابون به.
ثم شاهدنا لوحا مجسما مضيئا للدورة الدموية في جسم الإنسان التي اكتشفها ابن النفيس في القرن الثالث عشر، وبعدها شاهدنا كيف صنف الطبيب الفيلسوف “ابن سينا” -توفي 427هـ- كسور العظام في القرن الحادي عشر، والذي يعد كتابه “القانون في الطب” أشهر كتب الطب إطلاقا كما وصفه المؤرخون، وبجانبه ألّف عددا من الكتب: 43 في الطب، و 24 في الفلسفة، و 26 في الفيزياء، و 31 في الدين، و 23 في علم النفس، و 15 كتابا في الرياضيات، و 22 في المنطق، و 5 في تفسير القرآن، إضافة للزهد والحب والموسيقى وبعض القصص.
ثم ختمنا هذا القسم بمشاهدة بعض أدوات الجراحة التي اخترعها “الزهراوي” في القرن العاشر، وهي قرابة مئتي أداة جراحية مبتكرة تعد ثورة في عالم الجراحة.
قوة جذور العلوم في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ومتانتها، أفسحت لها المجال للنمو في مختلف ميادين المعرفة بثبات وعطاء فريدين، في الزراعة والتجارة والصناعة، في البناء والعمارة والزخرفة، في العلم والحكمة والمعرفة، في اكتشاف البحار والأسفار، ورسم خرائط الأرض والفضاء، في الغذاء والدواء والكيمياء، بهم قام أول مستشفى متطور في العام 874م في القاهرة أنشأه أحمد بن طولون وألحقه بالمسجد، وأول نظام تعليم عال كان في جامع القرويين، تدرس في علوم الطب والتشريح نظريا ثم يطبقون ذلك عمليا في غرف التشريح في زاوية الجامع، ومع انتشار نور المعرفة من الحضارة الإسلامية إلى أوروبا في عصور الظلام، انتقلت معهم المفردات والكلمات، مثلا: Jar أتت من جرة ، وكلمة Dragoman من ترجمان وهو المفسر أو الدليل في البلدان التي تتكلم العربية أو التركية أو الفارسية، و sugar أتت من سكر، وفي المعرض لعبة تعليمية تريك الكلمة وأصلها في اللغة العربية بطريقة توصيل النقاط ضوئيا.
أثناء تجولك في المعرض انتبه لرأسك فبالأعلى عباس بن فرناس في محاولته للطيران عام 852م، الذي ألهم العالم شغف التحليق عاليا، وهناك لعبة محاكاة على الطيران، تبين للزوار نقاطا لمفاصل مجسم ابن فرناس الأول للطيران.
وربما الكثير لا يعرفون أن أول إطلاق صاروخ فضائي قام به العالم التركي المسلم حسن لاغاري شلبي في العام 1663 باستخدام وقود من البارود.
لم تسع الأرض شغف المخترعين المسلمين، وإذا كانوا قد فشلوا في التحليق في السماء بأجسادهم، فقد أبحرت عقولهم وقلوبهم في بحار الفضاء الواسع، فطوروا علم الفلك وأدواته، وبنوا المراصد، وابتكروا الاسطرلاب الذي سمى مركزه باسمه الصديق العزيز مهند أبودية، ليحقق فيه حلمه ذو الميمات الأربع: مليون، مخترع، مسلم، منتج.
بشغفهم وضعوا خرائط النجوم وحددوا أحجمامها وأطلقوا الأسماء على نحو 1022 نجما وكوكبة، لايزال 165 نجما حتى اليوم تحمل أسماء تعكس أصولها العربية. كما اكتشفوا تضاريس القمر، وفي مؤتمر الاتحاد الفلكي العالمي عام 1935 قاموا بتسمية ثلاثة عشر تشكيلا من تشكيلات القمر بأسماء فلكيين مسلمين. وفي المعرض لعبة تعليمية باللغتين، لتكتشف على سطح القمر هذه التضاريس.
سعدت جدا بجولتي السريعة في معرض “ألف اختراع واختراع”، حرك كوامنا وبث أشجانا، كيف كنا وإلامَ صرنا، في مختلف المجالات، حتى في الذوق والجمال والفن، كانت لنا بصمة أضافت للحضارة الإنسانية وغيرت مسار التاريخ.
“العصر الذهبي” الذي كان “ابن بطوطة” يسافر فيه من بلد لآخر دون أن يشعر بالغربة، من شرق الأرض إلى غربها، فهم يتحدثون لغته ويدينون ديانته، هذا الدين العظيم هو الذي دفع بهم نحو الاكتشاف والتأمل والبحث والإتقان، حدد لهم الثوابت وفتح لهم عالم المتغيرات ليقابلوه بالابتكارات والاختراعات.
شكرا للقائمين على المعرض على جدهم ومجهودهم، ولمواكتبهم التقنية الحديثة، وإضفاء جو الترفيه التعليمي، ولإعطاء الزوار مساحة للتعبير عن انطباعهم في لوحات يرسمونها، وتلصق على حائط المعرض.
شكرٌ لإصدار الكتاب القيم “ألف اختراع واختراع، التراث الإسلامي في عالمنا“، الذي أعجبني فحواه ومحتواه، والذي صعب علي كتابة التدوينة، فاحترت ماذا أختار وماذا أترك من هذه الاختراعات العظيمة.
معرض ألف اختراع واختراع، ثورة حقيقية في استعادة شغف العلم والمعرفة، وإحياء لروح الابتكار والاختراع، “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا“.
محمد السقاف
اترك تعليقاً | عدد التعليقات: (8)
جميل جدا .. شكرا لك على هذه التغطية الرائعة
تقييم التعليق: 0 0
الأخ الكريم أحمد السقاف، أهلا ومرحبا بك
مودتي
تقييم التعليق: 0 0
مشكور على تقرير الجميل استمر وبالتوفيق
تقييم التعليق: 0 0
الأخ الكريم عدنان عراقي شكرا لمرورك ، مودتي
تقييم التعليق: 0 0
موضوع جميل جداً
يبعث الهمة في النفس
شكراً لك أخي الكريم
تقييم التعليق: 0 0
batool alhabshi العفو أختي الكريمة
مودتي
تقييم التعليق: 0 0
بارك الله فيكم .. بالتوفيق ان شاء الله
تقييم التعليق: 0 0
[…] محمد السقاف سقاف كوم – حيث لا سقف للمعرفة […]
تقييم التعليق: 0 0